كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ- كرم الله وجهه-: «إن فيك من عيسى مثلا. أبغضته اليهود حتى بهتوا أُمَّهُ، وأحبته النصارى حتى انزلوه المنزل الذي ليس له».
وكما قال سيدنا علي- كرم الله وجهه-: ألا وإنه يهلك فيّ اثنان: محبٌ يقرظني بما ليس فيّ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني، ألا إني لست بنبيّ ولا يوحى إليّ، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحق عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عليًّا أن المحب الذي يغالي في حبه ليس مع عليّ وكذلك الكاره المبغض؛ فالذي يحب عليا بغلو جعل منه إلهًا أو رسولًا، والذي أبغض عليًا جعله كافرًا. وكذلك النصارى من أهل الكتاب جاءوا إلى عيسى فأحبوه بغلو وجعلوه إلهًا أو ابن إله أو ثالث ثلاثة، فيقول لهم الحق: {لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله}. وقوله الحق: {عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله} رد على غلو اليهود الذين رفضوا الإيمان بعيسى، وقالوا في عيسى وأمه البهتان العظيم.
وقوله الحق عن عيسى ابن مريم: {رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} رد على غلو النصارى الذين نصبوه إلهًا أو جعلوه ابنًا لله أو ثالث ثلاثة، فعيسى عليه السلام هو ابن مريم وعندما بشرها به الحق وقالت:
{أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47]
قالت ذلك بفطنة الصديقية التي جعلتها تنبه إلى أنها لم يمسسها بشر، ومادام الحق قد نسبه إليها فليس له أب، سيولد عيسى دون أن يمسسها بشر، ويوضح سبحانه ذلك عندما يقول: {إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ}. فعيسى روح من الحق؛ لأنه سبحانه قال: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 91]
وما معنى كلمته؟. هذا القول يدل على أن الروح نفخت ثم جاءت كلمة كن التي قال عنها سبحانه: {إِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47]
لقد احتاج وجود عيسى إلى أمرين: روح وكن. والشبهة عند النصارى مردها إلى أن عنصر الذكورة لم يلمس مريم؛ وقالوا: مادام الله قد قال: إن عيسى روح منه فهو جزء من الله، ونسوا أن كل شيء من الله، وسبحانه القائل: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13]
فهل هذا يعني أن الأرض قطعة من الله وكذلك الشمس؟. لا. فإذا كانت الشبهة قد جاءت من غياب عنصر الذكورة مع وجود عنصر الأنوثة لكان من الواجب منطقيًا أن تكون الشبهة في آدم قبل أن تكون الشبهة في عيسى؛ لأن آدم جاء من غير ذكورة ولا أنوثة؛ فلا أب ولا أم له؛ لقد قال القرآن بمنتهى البساطة ومنتهى الوسع: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]
ولا يملك أحد القيد على فضل الله ووسعه، ومسألة آدم كانت أدق، لكن الله بتفضله يساوي بين خلق عيسى وخلق آدم، وهذا هو التلطف في الجدل. وأخبرنا سبحانه عن عيسى أنه جاء بأمر منه، وقال في آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29]
إذن فآدم قد احتاج إلى الأمرين نفسيهما: كن، والنفخ فيه من الروح، وعندما ننظر إلى هذه المسألة نجد أننا لابد أن نتعرض لقضية خلق آدم، حتى نعرف كيف تسلسلت مسألة الخلق، سواء أكان الخلق ملائكة أم خلق آدم أم خلق حواء أو غيرهم من الخلق، كذلك خلق عيسى. لقد كان خلق آدم غيبًا عن آدم، وليس لآدم نفسه ولا لمن جاء بعده أن يتكلم كيف خُلق؛ لأن هذه المسألة لا دخل لأحد بها، ويقول لنا الخلق محذرا من أن نستمع إلى قوم يقولون بغير ذلك عن الخلق فقال: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُدًا} [الكهف: 51]
ولا يمكن- إذن- أن نستمع إلى هؤلاء الذين افترضوا أن أصل الإنسان قرد أو غير ذلك؛ لأن الذي يتكلم عن الخلق بغير علم من عند الله، فهو يتكلم في أمر لم يشهده.
والخلق الأول أمر لا يمكن أن يدخل المعمل التجريبي؛ لأن المعمل التجريبي إنما يحلل مواد موجودة بالفعل. إذن فالحكم على أمور بغَير ما أخبرنا بها الله أمر باطل. ولم يكن هناك أحد مع الله ساعة خلق الخلق ليقول لنا كيف تم ذلك. وعَلِمْنا هذه المسائل بإخبار الخالق لنا فهو الأعلم بنا، والخالق أخبرنا أنه خلقنا من ماء وتراب وطين وحمأ مسنون وصلصال كالفخار، وحدثنا بذلك في آيات متعددة. والذين يريدون أن يكذبوا القرآن يقولون: إن القرآن لم يأت بخبر واحد عن خلق الخلق، فمرة يقول إن الخلق كان من ماء ومرة كان من تراب، ومرة كان من طين، ومرة كان من صلصال.
ونقول: أحين يتكلم الحق عن مراحل الخلق فهل في هذا تضاد؟. اصل الخلق ماء، خلطه الحق بتراب، وبعد وضع الماء على التراب صار الإثنان طينًا، ثم إذا تركنا الطين إلى أن يختمر، يصير حمأ مسنونًا، وبعد ذلك يصير صلصالًا، ومن بعد ذلك خلق منه الحق آدم. إذن فكل شيء تكلم عنه سبحانه في خلق آدم إنما يتفق مع كل الآيات التي جاءت عن هذا الخلق. وهو القائل عن آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29]
وبعد صنع الله القالب الذي يشبه التمثال الذي نراه، ولكن تنقصه الحركة ولحياة، فيأتي النفخ في الروح بكلمة كن. إذن نحن نحتاج إلى روح وإلى كلمة. والروح عنصر وجودي. وعندما تختلط بالقالب تحدث الحياة، ولابد من بعد ذلك من الإرادة بكلمة كن. ولذلك نجد الإنسان قد يصنع نفس خلطة الإنسان الكيماوية لكنها لا تصير إنسانًا؛ لأن الأمر ينقص الإذْن بميلاد الإنسان.
وساعة يتكلم الحق عن خلق آدم وهو أمر لم نشهده، فذلك من رحمته بنا، ويترك لنا سبحانه في الكون دليلًا على صدقه عن خلق آدم، فإذا كنا لم نشهد خلق الحياة فنحن نشهد نقيض الحياة وهو الموت، الذي يحدث فيه أولًا خروج الروح، ومن بعد ذلك ينتفخ الجسم كأنه الحمأ المسنون، ثم يتبخر الماء، وبعد ذلك يتحلل إلى تراب. هذه هي مراحل الموت التي تبدأ من خروج الروح ويتصلب الجسم إلى أن يَرِم ثم يتبخر الماء، وتبقى العناصر في الأرض.
وإذا كنا لم نعرف كيف بدأت الحياة، فنحن نعرف كيف انتهت الحياة أمامنا بالأمر المشهدي، وجعل سبحانه أمر انتهاء الحياة أمامنا دليلًا على صدقة في إخبارنا بالحياة وكيف بدأت؛ لأن نقض الحياة يكون بالموت، ونقض أي شيء إنما يتم على عكس طريقة بنائه. وآخر أمر دخل في الإنسان هو الروح، ولذلك فهي أول ما يخرج من الإنسان عند الموت.
وبعد ذلك يتصلب الجسم، وبعد ذلك يصير رمة وهي الحمأ المسنون. وبعد ذلك يتبخر الماء ويبقى أخيرًا التراب.
وقد حللوا الإنسان حديثًا. فوجدوا فيه عناصر كثيرة، ثم حللوا طينة الأرض الخصبة التي يخرج منها الزرع الذي يقتات منه الإنسان، فوجدوا هذه الطينة مكونة من هذه العناصر.
ومن العجيب أن العناصر المكونة للإنسان هي نفسها المكونة لطين التربة الخصبة، مما يدل على تأكيد الصدق في أن الله خلقنا من طين، وجعل استبقاء حياتنا مما يخرج من هذا الطين بعناصره المختلفة، جتى يمد كل عنصر من الطين كل عنصر من الوجود الإنساني. ولما قاموا بتحليل الإنسان مقارنًا بتحليل التربة وجدوا أن أضخم عنصر في تكوين الإنسان هو الأوكسجين ونسبته على ما أذكر سبع وستون بالمائة، وبعده عنصر الكربون، ونسبته على ما أذكر تسع عشرة بالمائة، إلى أن تنتهي العناصر المكونة للإنسان والتربة إلى المنجنيز ونسبته تقل عن واحدة بالمائة، وأهم هذه العناصر هو:
الأوكسجين، الكربون، الهيدروجين، النتروجين، الكلور، الكبريت، الكالسيوم، والفوسفور، والبوتاسيوم، الصوديوم، الحديد، اليود، والسيلوز، والمنجنيز. هذه هي أهم وأكثر العناصر المكونة لتركيب الإنسان وهي العناصر نفسها الموجودة في تركيبة الطين وبعضها عناصر مكونة للمركبات العضوية وبعضها عناصر غير عضوية وبعضها عناصر وظائفها ثابتة ومعروفة، ويسأل أهل الذكر في تفاصيل ذلك.
وبطبيعة الحال فالذين قاموا بتحليل التربة وعناصر الإنسان لم يكونوا علماء دين، ولم يكن في بالهم إقامة الدليل على صدق الله في القرآن، ذلك أن بعضهم يجهل مسألة القرآن كلها، ولكن الحق سبحانه وتعالى أجرى على لسان رسوله حديثًا يشرح لنا حقيقة إثبات صحة كل ما فيه ولو جاء على لسان رجل فاجر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».
فسبحانه- إذن- أراد أن ينصر الدين بالكافرين، وجعل بعضًا منهم يصلون إلى أشياء لو أنهم علموا أنها ستخدم قضايا الهدى لما أعلنوها. ومن حكمة الله أن جعل الكافرين غير قادرين على إغفال نصرة الدين، وجعل سبحانه بعضًا منهم يخدمون الدين على رغم أنوفهم. ونريد أن نأخذ من هذه المسألة فهمًا عميقًا، يتسم باللطف والسماحة، فإذا كان الله قد خلق الإنسان الأول من طين، وهناك آية أخرى قال عنها الحق: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29]
وآية ثالثة قال فيها سبحانه: {كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47]
إذن فخلق آدم احتاج إلى أمرين: النفخ من روح الحق، والأمر كن، وهما الأمران أنفسهما في مسألة خلق عيسى، روح من الحق، وكلمته التي ألقاها إلى مريم، وهذه دليل صدق لقوله الحق: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ} [آل عمران: 59]
والحق قد قص لنا أنه خلق آدم من طين وصنع القالب وسواه بيديه: {قَالَ يا إبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين * قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 75- 76]
فإذا كان الهيكل الذي خلقه الله ونفخ فيه الروح، ودبت فيه الحياة ثم تناسل النسل من آدم إلى أن تقوم الساعة، فهل مجيء عيسى على الصورة التي جاء بها يكون أمرًا عسيرًا على الله؟. لا. وساعة أنجب آدم أول ذرية له؛ ألم يخرج لحظتها حيوان منوي من آدم إلى البويضة في رحم حواء؛ وأراد به الله ميلاد أول نسل من آدم وهو جزء من آدم، وهذا الحيوان المنوي له مادة وله حياة، ومادته معروفة، وحياة هذا الحيوان المنوي هي التي تسمح له بالحركة لتلقيح البويضة، هذه المادة مخلوقة من آدم، والحياة التي فيه من روح آدم، وآدم نفسه خلقه الله بيديه، وهذا إثبات أن الحيوان المنوي هو جزء مما خلقه الله بيديه وهو آدم، وفي الحيوان المنوي حياة مما نفخه الله من روحه، وانتقل إلى رحم حواء وأخصب البويضة وولدته حواء، واستمر ميلاد حيوانات منوية حية تخصب بويضات حية ليستمر الخصب والنسل والأحفاد.
إننا إذا سلسلنا نسل آدم إلى أن تقوم الساعة، فكل ذرة من ذرات من يوجد آخر الدنيا مكونة من شيء به خلق من خلق الله في القالب، وفيه شيء من نفخ الله في الروح؛ ولم يطرأ عليه موت أبدًا؛ فلو طرأ عليه موت أو فناء لما صلح أن ينجب مثله. وهكذا نعلم أن كل واحد فينا به جزء من القالب الذي صنعه الله بيديه، وفيه جزء من نفخ الروح.
وأكرر المثل الذي أضر به دائمًا ليستقر في أذهان الناشئة؛ لو جئنا بسنتيمتر مكعب من سائل ملون مركز، وأضفناه إلى لتر من الماء، ثم أخذنا قطرة من لتر الماء سنجد بها جزءا ضئيلًا من السنتيمتر المكعب الملون. وإذا أخذنا هذه القطرة وأضفناها إلى برميل من المياه فيصير في البرميل جزء من السنتيمتر المكعب الملون. وإذا أخذنا من البرميل قطرة من المياه، وأضفناها إلى البحر فإن جزءا من السنتيمتر الملون يصير بالبحر. إذن فكل نسل آدم- إلى أن تقوم الساعة- فيه جُزَيْء- من آدم عليه السلام.
ونلحظ أن كثيرًا من المفكرين والمثقفين في الغرب صاروا يبتعدون عن فكرة بنوة عيسى لله. وعندما يدخلون في نقاش حول هذه المسألة يقولون: إنها بنوة حب. وإذا كانت المسألة بنوة حب، فالله يحب جميع عباده ونصير نحن مثل المسيح ويصير المسيح مثلنا. فالخلق كلهم عيال الله، والحديث القدسي يقول: «الناس كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم بعياله».